الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال نظام الدين النيسابوري: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)}.التفسير: الضمير في {شيعته} يعود إلى نوح والمراد أن إبراهيم ممن شايع نوحًا على أصول الدين أو على التصلب في الدين. وقال الكلبي: واختاره الفراء إنه يعود إلى محمد أي هو على منهاجه ودينه وإن كان إبراهيم سابقًا والأوّل لتقدّم ذكر نوح. ولما روي عن ابن عباس معناه من أهل دينه وعلى سنته وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان: هود وصالح، وبين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة. ومعنى {جاء ربه} أقبل بقلبه على الله وأخلص العمل له. والقلب السليم قد مرّ في الشعراء. ثم ذكر من جملة آثار سلامة قلبه أن دعا أباه وقومه إلى التوحيد. ومعنى {ماذا تعبدون} أي شيء تعبدونه كقوله في الشعراء {وما تعبدون} [الآية: 70] سألهم عن جنس معبوديهم ثم وبخهم على ذلك بقوله: {أئفكًا} هو مفعول له قدم للعناية كما قدم المفعول به على الفعل لذلك فإنه كان الأهم عنده أن يكافحهم ويعنفهم على شركهم وأنهم على إفك وباطل. ويجوز أن يكون {إفكًا} حالًا معنى أو مفعولًا به {آلهة} بدل منه على أنها إفك في أنفسها.{فما ظنكم برب العالمين} حتى جعلتم الجمادات أندادًا له أو حسبتم أنه يهمل أمركم ولا يعاقبكم، وفيه أنه لا يقدر في وهم ولا ظن ما يصدر عن عبادته. وفي قوله: {إني سقيم} قولان: الأوّل أنه صدر منه كذبًا لمصلحة رأى فيه، ولما جاء في الحديث «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات»:قوله: {إني سقيم} وقوله: {بل فعلهم كبيرهم} وقوله لسارة «إنها أختي» وقد سبق تقرير ذلك في الأنبياء. والثاني وهو الأقوى أنه كلام صادق لأن الكذب قبيح وإن اشتمل على مصلحة. وأما الحديث فنسبه الراوي إلى الكذب أولى من نسبة نبي الله إلى ذلك.وفي التوجيه وجوه: الأوّل إن النظر في النجوم يريد به النظر في علم النجوم وأحكامها وكتبها وذلك ليس بحرام ولاسيما في ذلك الشرع فليس فيه إلا اعتقاد أنه تعالى خص كل واحد من الكواكب بقوّة وخاصية يظهر بها منه أثر مخصوص، والإنسان لا نيفك في أكثر أحواله عن حصول حالة مكروهة له، إما في بدنه أو في قلبه، فلعل به سقمًا كالحمى الثابتة، أو أراد سيسقم لأمارة نجومية، أو أراد به الموت الذي يلحقه لا محالة ولا داء أعي منه. الثاني: أن المراد بالنجوم ما جاء في قوله: {فلما جن عليه الليل رأى كوكبًا} إلى آخر الآية. أي نظر فيها ليعرف أحوالها وأنها قديمة أو محدثة. وقوله: {إني سقيم} أي سقيم القلب غير عارف بربي وكان ذلك قبل البلوغ، أو سقيم النفس لكفركم. الثالث: إن النجوم النبات أي فنظر فيها متحريًا منها ما فيه شفاء لسقمهم وهمهم أن به ذلك وكان به. وقال الأزهري عن أحمد بن يحيى: النجوم جمع نجم وهو كل ما تفرق ومنه نجوم الكتابة أي نظر في متفرقات كلامهم وأحوالهم حتى يستخرج منه حيلة فلم يجد عذرًا أحسن من قوله: {إني سقيم} قال المفسرون: كان الطاعون أغلب الأسقام عليهم فظنوا أن به ذلك فتركوه في بيت الأصنام مخافة العدوى وهربوا إلى عيدهم وذلك قوله سبحانه {فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتهم} ذهب إليها في خفية حتى لا يرى فكأنه رجع إليها مراوغًا قومه من روغان الثعلب. وقيل: راغ بقوله: {إني سقيم} حتى خلا بها وسماها آلهة على زعمهم. وقوله: {الا تأكلون ما لكم لا تنطقون} استهزاء بها وكان عندها طعام زعموا أنها تأكل منه. وقيل: وضع الطعام ليبارك فيه. وروى أن سدنتها كانوا يأكلون ما يوضع عندها من الطعام وينطقون عند الضعفة عن لسانها يوهمون أنها تأكل وتنطق. وإنما جاء في هذه السورة {فقال ألا تأكلون} بالفاء وفي الذاريات {قال ألا تأكلون} بغير الفاء لأنه قصد من أول الأمر تقريع من زعم أنها تأكل وتشرب، وفي الذاريات يستأنف تقديره: قربه إليهم فلم يأكلوها فلما رآهم لا يأكلون فقال ألا تأكلون.{فراغ عليهم} عداه بعلى لأن الميل الأول كان على سبيل الرفق استهزاء، وهذا كان بطريق العنف والقهر وهذا كما يقال في المحبوب: مال إليه. وفي المكروه: مال عليه. وقوله: {ضربًا} مصدر راغ من غير لفظه أو لفعل محذوف أو حال أي بضرب ضربًا أو ضاربًا. ومعنى {باليمين} اي باليد اليمنى لأنها أقوى على الأعمال أو باقوّة مجازًا، أو بسبب الحلف وهو قوله: {تالله لأكيدن أصنامكم} {فأقبلوا إليه} أي إلى إبراهيم {يزفون} بمشون على سرعة. وزفيف النعامة ابتداء عدوها. ومن قرأ بضم الياء فإما لازم من أزف إذا صار إلى حال الزفيف، أو متعدٍ والمفعول محذوف أي يزفون دوابهم أو بعضهم بعضًا وقد مر نظيره في التوبة في قوله: {ولأوضعوا خلالكم} [التوبة: 47] قال بعض الطاعنين، قوله: {فاقبلوا إليه} دل على أنهم عرفوا كاسر أصنامهم. وقوله في الأنبياء {أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم} [الآية: 62] دل على أنهم لم يعرفوا الكاسر فبينهما تناقض. وأجيب بأن هؤلاء غير أولئك فالذين عرفوه ذهبوا إليه مسرعين، والذين لم يعرفوه بعد استخبروا عنه. على أن قوله: {فأقبوا إليه} لا دلالة له على أنهم عرفوا أن الكاسر هو إبراهيم فلعلهم أقبلوا إليه لأجل السؤال عن الكاسر. وحين عاتبوه على فعله أراد أن يبين لهم فساد طريقتهم ف {قال أتبعدون ما تنحتون} وذلك أن الناحت لم يحدث فيه إلا صورة معينة فيكون معناه أن الشيء الذي لم يكن معبودًا لي صار بسبب تصرفي فيه معبودًا لي وفساد هذا معلوم بالبديهة، احتج جمهور الأشاعرة بقوله: {والله خلقكم وما تعملون} على أن العبد ليس خالق أعماله لأن المعنى خلقكم وأعمالكم. وزيف بأن {ما} موصولة لتناسب قرينتها في قوله: {ما تنحتون} وليتوجه التوبيخ ولكيلا يلزم التناقض فإن النحت عملهم. والصحيح أن الآية كقوله: {بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن} [الأنبياء: 56] أي فطر الأصنام: ثم إن إبراهيم لما ألقمهم الحجر بهذا القول وألزمهم عدلوا إلى طريقة الإيذاء و{قالوا ابنوا له بنيانًا} قال ابن عباس: بنوا حائطًا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعًا وعرضه عشرون. وتقدير الآية: ابنوا له بنيانًا واملؤه نارًا وألقوه فيها. والجحيم النار العظيمة. ومعنى الفاء في قوله: {فارادوا} كقوله: {أهلكناها فجاءها بأسنا} [الأعراف: 4] كأنه قيل: فبنوا البنيان وملؤه نارًا وألقوه فنجيناه منها. وقد صح أنهم أرادوا به كيدًا {فجعلناهم الأسفلين} الأذلين وأما في الأنبياء فلم يقصد هذا الترتيب فاقتصر على الواو العاطفة. وإنما اختصت هذه السورة بقوله: {الأسفلين} لأنه ذكر أنهم بنوا بنيانًا عاليًا فكان ذكر السفل في طباقه أنسب.ثم ذكر بقية قصة إبراهيم وقوله: {إني ذاهب إلى ربي} كقوله في العنكبوت {إني مهاجر إلى ربي} [الآية: 26] وإنما حكم بقوله: {سيهدين} ربي إلى ما فيه صلاحي في الدارين اعتمادًا على فضل الله أو عرف ذلك بالوحي. وحين هاجر إلى الرض المقدسة أراد الولد فقال: {رب هب لي من الصالحين} والله تعالى بين استجابته بقوله: {فبشرناه بغلام حليم} وصف الغلام بالعلم في سورة الحجر وبالحلم ههنا. فذهب العلماء إلى أنه أراد بغلام عليم في صغره حليم في كبره، فإن الصبي لا يوصف بالحلم ومن هنا انطوت البشارة على معان ثلاثة: أحدها أن الولد ذكر، والثاني أنه يبلغ أوان الحلم، والثالث أنه يكون حليمًا، وأيّ حلم أعظم من استمساكه حين عرض أبوه عليه الذبح فقال: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} وفيه أن ولده قائم مقامه في الشرف والفضيلة فوصفه بالحلوم كما وصف به إبراهيم في قوله: {إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب} [هود: 75]. وقيل: العليم إسحاق لقوله: {فأقبلت امرأته في صرة} [الذاريات: 29] والحليم إسماعيل. ثم حكى حديث ذبحه قائلًا {فلما بلغ معه السعي} أي قوي على أن يمشي مع أبيه في حوائجه. والظرف بيان كأنه قال أوّلًا {فلما بلغ السعي} فقيل: مع من؟ فأجيب مع أبيه. ولا يجوز تعلقه بالسعي لأن صلة المصدر لا تتقدّم عليه ولا بقوله: {بلغ} لأنهما لم يبلغا معًا حد السعي- والمعنى في اختصاص الأب إخراج الكلام مخرج الأغلب. وقال جار الله: السبب فيه أن الأب أرفق الناس به وأعطفهم عليه وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله لأنه لم تستحكم قوته. يروى أنه كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة وقيل أراد السعي في المنافع وفي طاعة الله.اعلم أن الناس اختلفوا في الذبيح، فعن أبي بكر الصديق وابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب وسعيد بن المسيب وعكرمة ومجاهد والضحاك أنه إسماعيل لقوله صلى الله عليه وسلم «أنا ابن الذبيحين» فأحدهما جده إسماعيل والآخر أبوه عبد الله. وذلك أن عبد المطلب نذر إن بلغ بنوه عشرة أن يذبح واحدًا منهم تقربًا، فلما كملوا عشرة أتى بهم البيت وضرب عليهم بالقداح فخرج قدح عبد اتلله فمنعه أخواله ففداه بعشرة من الإبل، ثم ضرب عليه وعلى الإبل فخرج قدحه ففداه بعشرة أخرى، وضرب مرة أخرى فخرج قدحه وهكذا يزيد عشرة عشرة إلى أن تمت مائة فخرج القدح على الجزر فنحرها وسن الدية مائة. وفي رواية أن أعرابيًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم «يا ابن الذبيحين». فتبسم فسأل عن ذلك فقال: إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر الله لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده. فخرج السهم على عبد الله فمنعوه ففداه بمائة من الإبل. حجة أخرى: نقل عن الأصمعي أنه قال: سألت ابا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال: يا أصمعي أين عقلك؟ ومتى كان إسحاق بمكة وإنما كان إسماعيل وهو الذي بنى البيت مع أبيه وسن النحر بمكة. وحجة أخرى: وصف إسماعيل بالصبر في قوله: {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين} [الأنبياء: 85] وهو صبره على الذبح في قوله: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} ووصفه بصدق الوعد {إنه كان صادق الوعد} [مريم: 54] وذلك أنه وعد أباه الصبر على قضاء الله أو على الذبح فوفى به. أخرى: {ومن وراء إسحاق يعقوب} [هود: 71] فيمن قرأ بالنصب لأنه إذا بشر بالولد من صلبه علم أنه لم يؤمر بذبحه.أخرى: أجمعوا على أن إسماعيل مقدم في الوجود على إسحاق فهو المراد بقوله: {رب هب لي من الصالحين} ثم إنه ذكر عقيبة قصة الذبح. وايضًا قوله: {وبشرناه بإسحق} يجب أن يكون غير قوله: {فبشرناه بغلام حليم} وإلا لزم التكرار. حجة أخرى: أن قرني الكبش كانا ميراثًا لولد إسماعيل عن أبيهم وكانا معلقين بالكعبة إلى أن احترق البيت في أيام ابن الزبير والحجاج. وعن علي وابن مسعود وكعب الأحبار وإليه ذهب أهل الكتاب أن الذبيح إسحاق لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل اي النسب أشرف؟ فقال: يوسف صديق الله ابن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله. وأجابوا عن قوله: {وبشرناه بإسحاق} أنه بشر بغلام أوّلًا ثم بنبوته ثانيًا. وايضًا صرح بالمبشر به في قوله: {فبشرناه بإسحق} [هود: 71] وفي قوله: {وبشرناه بإسحق} فيحمل عليه المبهم في قوله: {فبشرناه بغلام} وأيضًا لا نسلم أن البشارة بيعقوب كانت متصلة ببشارة إسحاق اعتبارًا بقراءة من قرأ {يعقوب} [هود: 71] بالرفع. وأيضًا أنهم أجمعوا على أن المراد من قوله: {إني ذاهب إلى ربي} هو مهاجرته إلى الشام ثم قال: {فبشرناه بغلام} فوجب أن يكون الغلام الحليم قد حصل له في الشام وذلك الغلام لم يكن إلا إسحق، لأن إسماعيل قد نشأ بمكة. وكان الزجاج يقول: الله أعلم أيهما الذبيح. ويتفرع على اختلاف المفسرين في الذبيح اختلافهم في موضع الذبح، فالذين قالوا إن الذبيح إسماعيل ذهبوا إلى أن الذبح كان بمنى وهذا أقوى، والذين قالوا إنه إسحاق قالوا ن الذبح كان بالشام وخصه بعضهم ببيت المقدس. إذا عرفت هذا الاختلاف فقوله: {يا بني إني أرى في المنام} إنما قال بلفظ المستقبل لأنه كان يرى في منامه ثلاث ليال أو لأن رؤيا الأنبياء وحي ثانٍ فذكر تأويل الرؤيا كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب سفينة: رايت في المنام أني ناجٍ من هذه المحنة فكأنه قال: إني أرى في المنام ما يوجب أني أذبحك. ويحتمل أن يكون حكاية ما رآه. قال بعض المفسرين: رأى ليلة التروية كأن قائلًا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا فأصبح يروّي في ذلك أمن الله أو من الشيطان فسمي يوم التروية. فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله فسمي عرفة، ثم رأى مثله في الثالثة فهمّ بنحره فسمي يوم النحر. وقال بعضهم: حين بشره الملائكة بغلام حليم قال هو إذن ذبيح الله، فلما ولد وبلغ حد السعي مع أبيه قيل له: أوف بنذرك فانظر ماذا ترى هو من الرأي. ومن قرأه من الإراءة فالمعنى ماذا تبصر من رأيك وتدبيرك. وإنما شاوره في حتم من الله ليثبته إن جزع ويفرح بصبره إن ثبت ولئلا يقع الذبح معافصة من غير إعلام به وبسببه، وليكون سنة في المشاورة فقد قيل: لو شاور آدم الملائكة في الأكل من الشجرة لما فرط منه ذلك {قال يا أبت افعل ما تؤمر} أي به فحذف الجار كقوله: أمرتك الخير.اي أمرتك بالخير أو أمرك على تسمية المأمور به بالمصدر ثم إضافته إلى المفعول: {فلما اسلما} أي انقادا وخضعا لأمر الله. قال قتادة: اسلم هذا ابنه وهذا نفسه.{وتله} أي صرعه. واللام في {للجبين} كهي في قوله: {ويخرون للأذقان} [الإسراء: 109] والجبين أحد جانبي الجبهة. وقيل: كبه لوجهه لأن الولد قال له اذبحني وأنا ساجد. يروى أنه حين أراد ذبحه قال: يا بنيّ خذ الحبل والمدية ننطلق إلى الشعب ونحتطب، فلما توسطا الشعب أخبره بما أمر فقال له: اشدد به رباطي لئلا اضطرب واكفف عني ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي فينقص أجري وتراه أمي فتحزن، واشحذ شفرتك واسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون فإن الموت شديد، واقرأ على أمي سلامي، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون اسهل. فقال إبراهيم: نعم العون أنت يا بنيّ على أمر الله. ثم اقبل عليه يقبله وقد ربطه وهما يبكيان فقال له: كبني على وجهي ولا تنظر إليّ حتى لا تدركك رقة تحول بينك وبين أمر الله. قال جار الله: تقدير الكلام فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا كان ما كان مما ينطق به العيان ولا يحيط به البيان من استئثارهما بما أنعم الله عليهما من دفع البلاء وبما اكتسبا في تضاعيف ذلك من الثواب والثناء، وقد اشير إلى جميع ذلك بقوله: {إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا} الأمر الذي قد وقع {لهو البلاء المبين} الذي يتميز فيه المخلص عن المدعى والمكروه الذي لا أصعب على النفس منه. يروى أنه لما وصل موضع السجود منه الأرض جاء الفرج. وقيل: إنه وضع السكين على قفاه فانقلب السكين وونودي يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا. فنظر فإذا جبرائيل عليه السلام معه كبش أقرن أملح فكبر جبرائيل والكبش وإبراهيم وابنه وأتى المنحر من منى فذبحه وذلك قوله سبحانه {وفديناه بذبح عظيم} والفداء جعل الشيء مكان غيره لدفع الضرر عنه،. والذبح اسم لما يذبح كالطحن لما يطحن. وقوله: {عظيم} أي سمين ضخم الجثة بالقياس إلى أمثاله وهي السنة في الأضاحي. قال صلى الله عليه وسلم «استشرفوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم» والاستشراف جعلها شريفة وكريمة. وعن سعيد بن جبير: حق له أن يكون عظيمًا وقد رعى في الجنة أربعين خريفًا. وفي قول ابن عباس: إنه الكبش الذي قربه هابيل فقبل منه وكان يرعى في الجنة إلى أن فدى به غسماعيل.وقيل: سمي عظيمًا لعظم قدره حيث قبله الله تعالى فداء عن ولد خليله. وقيل: وصفه بالعظم لبقاء أثره إلى يوم القيامة فإنه ما من سنة إلا ويذبح بسبب ذلك من الأنعام مالا يحصيه إلا الله. وعن الحسن: أنه وعل أهبط عليه من ثبير. وقال السدّي: نودي إبراهيم فالتفت فإذا هو بكبش أملح ينحط من الجبل فقام عند إبراهيم عليه السلام فذبحه وخلى ابنه.استدل بعض الأصوليين من أهل السنة بالآية على جواز نسخ الحكم قبل حضور وقته. وقالت المعتزلة. وكثير من فقهاء الشافعية والحنفية بعدم الجواز لاستلزامه البداء أو الجهل، وزعموا أنه تعالى أمر إبراهيم في المنام بمقدمات الذبح كاضجاع ابنه ووضع السكين على حلقه، والعزم الصحيح على الإتيان بذلك الفعل أوان ورود الأمر. سلمنا أنه أمر بنفس الذبح لكن لم يجوز أنه قطع الحلقوم إلا أنه كان يلتئم جزءًا فجزءًا فلهذا قيل له {قد صدّقت الرؤيا}. والفداء فضل من الله في حقه وتعظيم له بدلًا من عدم وقوع الذبح في الظاهر ولهذا قال: {وفديناه}. بإسناد الفداء إلى ذاته تعالى. والحق أن نسخ الحكم قبل وقته لا يدل على البداء والعبث كما أنه بعد الوقت لا يدل على ذلك فقد يكون غرض الآمر أن يعلم أن المأمور هل يعزم على الفعل ويوطن نفسه على الانقياد والطاعة أم لا. وتصديق الرؤيا يكفي فيه الإتيان بمثل هيئة الذبح، فمن الرؤيا ما يكون تأويلها بالشبيه كرؤيا يوسف، والفداء زيادة تشريف وتكريم ووضع سنة مؤكدة. وروي أن الكبش هرب من إبراهيم عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فبقيت سنة في الرمي. وروي أنه لما ذبحه قال جبرائيل: الله أكبر الله أكبر. فقال الولد الذبيح: لا إله إلا الله واله أكبر. فقال إبراهيم: الله أكبر ولله الحمد. فبقي سنة. قوله: {وتركنا} إلى قوله: {المؤمنين} قد مر نظيره في قصة نوح إلا أنه لم يقل هاهنا {في العالمين} اكتفاء بما علم في قصة نوح. ولم يقل هاهنا {إنا كذلك} بل اقتصر على {كذلك} لأنه سبق ذكر التأكيد في هذه القصة فلم يحتج إلى إعادته على أنه قد بقي من القصة شيء فناسب الاختصار في الاعتراض. قوله: {وبشرناه بإسحق} من جعل الذبيح إسماعيل قال: وبشرناه بإسحق بعد إسماعيل. ومن جعل الذبيح إسحاق قال بشر بنبوّته وقد كان بشر بمولده. قوله: {نبيًا من الصالحين} كل منهما حال مقدرة من الفاعل أي بشرناه به مقدرًا وعالمًا وحاكمًا بأنه نبي صالح. وقد أطنب صاحب الكشاف في هذا المقام حيث بنى الكلام على أنه حال مقدرة من إسحق. وهو عندي تطويل بلا طائل فليتأمل.
|